الأحد، 1 نوفمبر 2009

جاي باريني - لماذا نهتم بالشعر ؟؟؟

لماذا نهتمّ بالشعر؟
___________________________________
جاي باريني
ترجمة : عبود الجابري

- الشعر لم يعد يعني غالبية الناس، فهم يمارسون أعمالهم المعتادة وقلّما يلجأ أحدهم إلى شكسبير، وردزورث، أو فروست. حتى إن المرء ليندهش إن رأى للشعر أي مكان في القرن الحادي والعشرين في ظل تنافس الفضائيات والتلفزيون وأشرطة الفيديو من أجل قمع القصائد.. تلك القصائد التي تتطلب قدراً وافراً من التركيز، وقدراً أوفر من مهارات التحليل، إضافة إلى بعض المعلومات حول تقاليد الشعر.
في القرن التاسع عشر كان الشعراء أمثال سكوت، بايرون، ولونجفيلو، يملكون جمهوراً واسعاً حول العالم، وكانت أعمالهم تحقق مبيعات هائلة، وكانوا رموزاً ثقافية كذلك.
غير أن القّراء في ذلك الوقت كانوا يملكون القليل من الخيارات، وإذا افترضنا -وإن بشكل وهمي- أنّ الناس في الواقع يهتمون بالشعر.. فذلك لأنه يزودهم بالحكايات الموحية والمبتكرة، ويعطيهم الكلمات التي تحاكي مشاعرهم، كما أنهم يستمتعون بالقصص الشعبي أيضاً.. الموسيقى والشعر متلازمان في الإدراك.
في القرن العشرين.. شيء ما أصبح مفقوداً.. فقد أصبح الشعر أكثر صعوبة.. وتلك هي المسألة.. حيث صارت القصائد تعكس تعقيدات الثقافة الحديثة وتفككها العنيف.
إن قصائد شعراء مثل عزرا باوند، ماريان مور، ووالاس ستيفنس، تتطلب الكثير من القارئ، كالمراجع الثقافية والنصوص التي تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر، التي لم تعد معروفة بشكل واسع، وعلى سبيل المثال فإنك حين ترغب بقراءة باوند بسهولة، فستلزمك بعض المعلومات عن الشعر اللاتيني والإغريقي.
ذلك النوع من التعلم كان شائعاً بشكل مطلق بين القراء المتعلمين في الماضي، عندما كان الأدب الكلاسيكي حجر الزاوية في ثقافة الطبقتين الراقية والوسطى، ولا ينطبق ذلك على قراء القرن العشرين أو قراء اليوم، حيث أصبحت الثقافة أكثر انفتاحاً، وباتت دراسة الأدب الكلاسيكي محصورة ضمن فئة قليلة من المهتمين... بينما صارت نصوص شعراء الحداثة المعروفين تتطلب الكثير من الهوامش.
مع ذلك.. فإن الشعر يستطيع أن يؤثر في حياة القارئ..، لقد جربت ذلك شخصياً، حيث قرأت وكتبت الشعر لأربعة عقود على الأقل..، كل صباح أبدأ يومي بقراءة كتاب شعري وقت الفطور..، أقرأ قصيدة.. ربما قصيدتين، وأتأمل ما قرأت..، غالباً ما أدون ملاحظات حول ما قرأت في دفتر اليوميات.
قراءة الشعر تعيد تشكيل يومي وتزيد خطواتي توهجاً.. وتمنحني ظلال أحاسيسٍ لم تكن موجودة لديّ سابقاً. أتذكر الأبيات، العبارات التي تطفو على ذاكرتي طوال اليوم.. نتف من الأغاني إن جاز لي القول.
أعتقد وبشكل جازم أن حياتي كانت ستصبح هزيلةً من دون الشعر، موسيقاه ، وحكمته العميقة.
إن من الشعر لحكمة.... ، قبل وقت قصير كنت في المغرب، وحدثني رجل تقي من المسلمين أن النبي محمد قال ذلك في حديثٍ نبوي، وتحدث القرآن عن الشعراء مبيناً أخطارهم..
هذا يذكّرني بأفلاطون الذي أراد أن يحرم جميع الشعراء من جمهوريته الفاضلة، لأنهم كما كان يظن.. كاذبون.. الحقيقة كانت متينة عند أفلاطون، فهي عالم متكامل من الأفكار، والعالم المادي يمثل تلك الصورة المثالية، فهو عالم ناقص على الدوام.
كذلك كان التصوير الفني للطبيعة، في مراحل المثالية المتعددة، لا يحتمل أي تشكيك.
غير أن أفلاطون كانت لديه تحفظات أخرى حول الشعراء في الجمهورية، حيث رأى أنهم ينتزعون تعاطف القراء بطرق لا جدوى منها: إنهم يخلطون أحاسيس الرغبة والغضب والأحاسيس الأخرى، الرغبة والألم والمتعة، الشعر يغذي الأهواء ويرويها بدلا من تجفيفها .
بينما التراتيل ومدح الرجال العظماء هي فقط ما على القراء أن يفعلوه.. فذلك أمر حسن وفق القانون وأسبابه الموجبة ، يقول أفلاطون، الذي لم يوغل نهائياً في الشعر من الناحية الفنية، وإنما اكتفى بلصق الشبهات على المهن.. ولم يفرد للشعر مكاناً في عالمه.
حتى شعراء الفترة الرومانسية المعروفون (بايرون، كوليردج، كيتس، شيلي، وردزورث)، كانوا يعيشون على هامش الحركة الاجتماعية، ولم يحظوا بالتبجيل الى حد كبير. وحديثاً فإن علما مثل ألين غينسبرج كان يسخر من بلدانهم، وقد كان الشعر لديهم نزوعاً نحو التمرد، ولم يكونوا ضيوفاً مرحَّباً بهم على موائد المجتمع.
منذ عهدٍ بعيد كان المعلمون والأساتذة يعدّون الشعر جزءاً أساسياً من المنهج الدراسي، وكان الشعر يحتل موقع الصدارة في دروس الثقافة في قاعات التدريس، وكان الشعراء يرتعون في رياض القرى الأكاديمية في الجامعات.
وكان فروست أول الشعراء الذين لقوا ترحيباً عظيماً في الحرم الجامعي، فقد مارس التدريس فترة طويلة من حياته في كلية أمهرست وأماكن أخرى.. وأمضى العقود الخيرة من حياته سائحاً في البلاد، محاضراً او قارئاً لجمهوره العريض، مؤمناً بشدة بأهمية الشعر كمعنى لتغيير العقل.
في التثقيف بواسطة الشعر ، إحدى أروع مقالاته، يناقش فروست. كيف يكون عمل الشعر أساسياً في تطوير الذكاء، وقد ذهب إلى أبعد من ذلك حين رأى أنك إن لم تكن في البيت (الكناية)، فلست بمأمنٍ في أي مكان آخر، ولن تكون مطمئناً بوجود القيم الرمزية ، لأنك لا تعرف إلى أي مدى ستحملك، ومتى ستتحطم . تلك كانت مزاعم كبيرة جداً، وهكذا هم الشعراء، يخلقون المزاعم الكبيرة، ولديهم دائماً قليل من المبالغات.
في الدفاع عن الشعر، يقول شلي : الشعراء هم مشرعو العالم المغيبون ، في صياغة جديدة لعبارة الشاعر جورج أوبين الذي قال: الشعراء هم مشرعو العالم المغيّب .
شخصياً لا أرغب أن يقوم الشعراء بوضع قوانين العالم وأعرافه، لأنهم على أبعد تقدير سيسيئون التصرف في الشؤون العامة، عالم الشعر - إلى حد كبير - عالم غامض من الفكر والأحاسيس، حيث نعيش حياتنا الواقعية، والشعر مهمته أن يسند تلك المملكة الداخلية.
في حديث في جامعة برنستون في العام 1942، وعندما كان العالم ملتهباً، بيّن ستيفنس أن القرن العشرين أصبح أكثر عنفاً جسدياً وروحياً، وبطريقة بليغة عّرف الشعر على أنه العنف الداخلي الذي يحمينا من العنف الخارجي، إنّه الخيال الذي يقاوم قسوة الواقع، ويبدو في المحصلة أننا بحاجة إلى وسيلة لحماية ذواتنا، ودون شّك فإن ذلك هو سبب صياغة الشعر وصدى كلماته التي تعيننا أن نعيش حياتنا .
قسوة الواقع.. تزداد شراسة، ومع ذلك يستمر الشعر بتزويدنا بإمكانيات استيعاب تلك القسوة، من خلال مقاومة القوى الخارجية التي تريد أن تغمر الإنسان وتطمسه. الشعر يمنح العالم صوتاً بطرقٍ كانت مجهولة سابقاً، نحن نصغي للسكون، وصوت الشعر الخافت عند قراءة القصيدة هو ذلك الصوت الذي يقف بضراوة نقيضاً لكل ضجيج المجتمعات أو بشكل أو بآخر ضد أصوات انفجارها.
عادة ما أقوم بتعريف الشعر لطلابي على أنه اللغة التي تلائم خبراتنا، خبراتنا الكاملة، مع النظر في الحسبان إلى الوديان العميقة، القمم، والسهول الفسيحة . إنه يعطي الصوت للأفكار الخافتة، كما قال الشاعر الاسكتلندي الموهوب (الأستير ريد): المرء لا يأمل أن يقوم الشعر بتغيير العالم ، وقد كتب أودن في رثاء ييتس : الشعر لم يفعل شيئاً على الإطلاق .
إلى ذلك الحد.. أجل.. فلم يغير من اقتصاد السوق، ولم يقنع الطغاة بالعدل، كذلك فإنه لم يستطع تحريض الطبقات الدنيا على النزول إلى الشوارع احتجاجا على حرب أو التماساً للعدالة الاقتصادية. إنه يعمل بطريقة أكثر هدوءاً، معيداً تشكيل الفراغ الداخلي لدى القارئ، ويضيف قدراً من الرقة على أفكاره، ويبالغ في تعقيد العالم بين يديه.
اللغة تقوم بتعريفنا ككائنات بشرية. نحن نتكلم.. لذلك نحن موجودون ، لدينا الإمكانية المذهلة للتفاهم بالكلمات، لتكوين الجمل والأوامر، للتعبير عن مشاعرنا، لبدء المناقشات والخروج بالاستنتاجات.
أهمية اللغة الشعرية تكمن في دقتها ومتانتها، وقدرتها على تقريبنا من العالم المادي.
يكتب ايمرسون أن الطبيعة الشفافة للكلمات تدلنا على الاتجاه الذي يدعى روحنا ، واضعاً نصب عينيه ثلاث قواعد ثمينة:.
- الكلمات إشارات لحقائق الطبيعة.
- تفاصيل حقائق الطبيعة، رموز لتفاصيل حقائق الروح.
- الطبيعة هي رمز الروح.
هذه العبارات تشكل برنامجاً للأساليب التي يمكن اعتمادها في الحركة الاستثنائية التي درست الطبيعة وفقاً لرموز الحياة الروحية، وهي مبادئ تستحق التفكير.
في بعض المستويات، تطرح الكلمات حقائق طبيعية (صخرة، نهر، طير، غيمة...)، يكون الإعجاز عند وضعها في عالمها الروحي.. وأعتقد أن الإعجاز يكمن في كيفية وضعها، بشكل بعيدٍ عن التقليدية، في مسارها الروحي، في العالم الباطني العميق الغامض الذي يعيش في كلّ منا، بصرف النظر عن دياناتنا أو معتقداتنا.
أفكر ببيت من جيرارد مانلي هوبكنز : آه.. العقل الذي يحتوي الجبال.. والمنحدرات الشاهقة.. .
العقل يحتوي كل تلك المرتفعات.. والفجاج، والقليلون الذين لم يدركوا ذلك يقفون بخشوع عند سلطان رهبة تلك التضاريس.. تلك هي المملكة الروحية التي يمكن للمرء أن يوجهها في أي اتجاه، الطبيعة أصبحت مؤخراً رمز الروح .
حسب ايمرسون ، الشعر نفسه يجسد تلك الطبيعة. إنه جزء منها، يعكس العالم الباطني، يملؤه بالصور والعبارات، ويثري الأسس في حقيقة حياة الأفراد.
لم أستطع العيش بعيداً عن الشعر، الذي وهبني وجوداً أكثر متانة، أكثر عمقا، وشكل تفكيري، ومنحني روحاً مفعمة بالأمل.. منحني سبلاً للبقاء حيّاً.. ، تلك هي عبارات د.جونسون أرددها من باب التلذّذ.


- * شاعر وناقد أمريكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق