الأحد، 1 نوفمبر 2009

ستيفن ميلهاوسر - طموح القصة القصيرة

طمـــوح القصـــة القصيـــرة

الكاتب ستيفن ميلهاوسر


سـتيفـــن مـيلهــاوســــر
ترجمة: عبود الجابري
القصة القصيرة كم هي متواضعة ومهمشة، كم هي بعيدة عن الغطرسة في أخلاقها، تجلس بهدوءٍ هناك مطرقة كما لو انها تحاول أن لا تُرى، وإذا ما حدث أن لفتت اليها النظار فأنها تفعل ذلك بعجالة بصوت هامس متخوف ومستعدٍ لجميع احتمالات الخذلان.
" انا لست رواية كما ترى، ولا حتى رواية قصيرة فإن كنت تبحث عن الرواية فأنا لست ضالتك "
نادراً ما نرى شكلاً ادبياً يهيمن على شكلٍ آخر، ندرك ذلك ونكتفي بهز رؤوسنا معرفةً. هنا في أمريكا، الحجم هو القوة.
الرواية هي السوق الشامل وهي طائرة الأدب النفاثة. الرواية شرهة، لها رغبة في التهام الكون، القصة القصيرة المعدمة ماذا بوسعها أن تفعل؟
تستطيع أن تحرث بستانها، تمارس التأمل، تروي النباتات في الأصص الموضوعة على النوافذ، تستطيع أن تنخرط في دورة في الواقع الخلاّق، ويمكنها أن تفعل ما تشاء طالما انها لم تغادر موقعها طالما حافظت على هدوءها وتنحت عن وسط الطريق.
بصوتٍ صاخب تبكي الرواية وهي تختال في مسيرها، القصة القصيرة تنحني دائماً للغلاف، الرواية تتملك السهول، تقطع الأشجار، بينما تنتبذ القصة القصيرة.ركناً قصياً لتسحق تحت الأسوار.
من الطبيعي أن تكون هناك مزايا لصغر الحجم، حتى الرواية تحاول تحقيق تلك المزايا، الأشياء الكبيرة تنزع الى السيطرة دون إنتباه للتهذيب والرشاقة، صغر الحجم مملكة للأناقة والجمال، أنه كذلك مملكة للكمال.
الرواية تسعى لاستنزاف عالمٍ عصيٍ على الاستنزاف، لذلك فانها تناضل دون ان تبلغ ذلك، القصة القصيرة تسعى للمغايرة فطرّيا، وعندما تفوتها أشياء عديدة، فأنها تستطيع أن تعطي شكلاً جميلاً لما تمسك به من بقاياها. كذلك فأن القصة القصيرة تطالب بنوعٍ من الكمال الذي تتملص منه الرواية بعد أن قامت بأقصاء جذري للقصة القصيرة.
الرواية عندما تتذكر القصّة، فانها تخاطبها وبنوعٍ من الشهامة:
" انني معجبة بك " تقول ذلك واضعة يدها الخشنة على قلبها.. " انا لا أمزح " " أنتِ كذلك.. أنت كذلك جميلة، مهذبة جداً، من طبقةٍ راقيةٍ ورشيقةٍ أيضاً".
الرواية تحتوي ذاتها بصعوبة، بعد ذلك ما الذي يمكنها فعله..؟ لا شيئ أبداً سوى الكلام، ما تسعى اليه الرواية هو الفخامة.. القوة .
وعميقاً في سريرتها فإنها تزدري القصة القصيرة، التي تكتفي بأصغر المساحات.
الرواية لا تكترث لصرامة القصة القصيرة وزهدها ونكران ذاتها.
الرواية تسعى لإمتلاك المقاطعات، تسعى لإمتلاك العالم كله، بينما الكمال هو عزاء من لا يملكون شيئاً" ، ذلك ما تفعله القصة القصيرة حين تعلن عن ذاتها بتواضع، وتفاخر بمزاياها على استحياء، وتبّدد وقتها تفكيراً بعلاقةٍ نبيلةٍ مع منافستها، تجلس باسترخاءٍ وتطلق العنان للرواية لكي تحتل العالم شيئاً فشيئاً.
الأشياء البّراقة كما تبدو للعيان، يكون فيها اثر من الاختلاس حتما، ذلك الأمر هو الذي رّوض مالدى القصة القصيرة من توق، وفقاً للمزيا التي تتمع بها، ولولا ذلك، لما كان منها الإعتراف العلني بما حولها، بسب من الغريزة الشائكة في حماية الذات والسرّية التي يخلقها الظلم لدى الآخرين في عالمٍ يحكمه غرور الروايات المتتابعة، تعلمت صغيرة الحجم أن تحفر طريقها بدأبٍ لا يمكن اكتشاف مغاليقه، اتخيل القصة القصيرة تضمر في داخلها رغبة.
اتخيلها تخاطب الرواية:
" بوسعك أن تملكي كل شيئٍ... أيّ شيئ..، وجلّ ما أطلبه هو حبةُ رملٍ واحدة.."
فتهزّ الرواية كتفيها غروراً وازدراءً وتلبّي لها تلك الرغبة.
غير ان حبة الرمل تلك كانت طريق الخلاص للقصة القصيرة والمنقذ لها.
استعرتُ هذه العبارة من ويليام بليك"
" أن أرى العالم في حبة رمل "
تخيّلوا ذلك..، العالم في حبة رمل، ذلك يعني أن أي جزء من العالم مهما كان ضئيلاً فإنه يحتوي العالم كله في داخله..، ولنا أن نتخيلها بطريقة أخرى:
اذا ركزت انتباهك في أي جزء مجهول صغير من العالم، فإنك لن تجد في عمقه سوى العالم ذاته. في حبة الرمل تلك ثمة المحيط الذي يرتطم بالشاطئ، والسفن التي تمخر عباب ذلك المحيط، والشمس التي تنعكس على تلك السفن، ثمة الريح الموسمية وملاعق الشاي في " كنساس ". انه بناء كوني كما ترى.
وثمة هناك طموح القصة القصيرة، ذلك الطموح الرهيب الذي يختبئ خلف تلك البشاعات المرائية بدءاً من الجسد، صعوداً باتجاه العالم جميعه.
القصة القصيرة تؤمن بالتحوّل،تؤمن بالقوة الكامنة، بينما تفضل الرواية وضوح المشهد، فهي لا تملك صبر حبة الرمل الوحيدة، التي تلمع ولا يمكن مشاهدتها. الرواية تود ان تجمع كل الأشياء بين احضانها. الشواطئ والقارات، لكنها لن تنجح في ذلك أبداً، فالعالم أكثر اتساعاً من الرواية.. العالم الذي يتشظى في جميع الإتجاهات.
الرواية تقفز دونما هوادة من مكان الى آخر.. جائعة دونما قناعة، يعتريها خوف الوصول الى النهاية.. لأنها حين تتوقف ستكون مجهدةً دون أي أحساس بالأمان... سيهجرها العالم.
القصة القصيرة تركزّ في حبة الرمل خاصتها.. في المعتقدات المفترسة التي كانت ولا تزال، تركز في راحة يدها، حيث ينطوي العالم جميعه، تتطلع في حبة الرمل، كما يتطلع العاشق في وجه حبيبته، إنها تنتظر اللحظة التي تفصح فيها حبة الرمل عن طبيعتها.
في تلك اللحظة من البوح الصوفي، وعندما تنبثق الوردة الكونية من بذرة صغيرة، ستشعر القصة القصيرة بقّوتها، ستغدو أكبر من ذاتها.. ستغدو أكبر حجماً من الرواية.. ستكون شاسعة كما هو العالم.
في ذلك المكان، تقبع جرأة القصة القصيرة، وعدوانيتها المستترة، طريقتها في البوح، صغر حجمها هو مصدر قوتها، الكتلة الثقيلة للرواية تقوم بضربها في مشهد مضحك للضعف.
القصة القصيرة تعتذر دون ذنب، جذلى بقصرها، تتمنى لو انها تكون أقصر، تتمنى لو تكون كلمة واحدة، ولو تمّ لها العثور على تلك الكلمة التي تستطيع وصف المقام، فان الكون جميعه سيتوهج هادراً.
ذلك هو الطموح الشنيع للقصة القصيرة، ذلك هو الإخلاص الأعمق.
تلك هي عظمة الصغر........
ستيفن ميلهاوسر...

قاص وروائي أمريكي له العديد من الأعمال الروائية والقصصية أبرزها " مارتن درسلر" التي حازت جائزة البوليتزر، ورواية " صورة شخصية للعاشق 1977 " و " مملكة مورفيوس 1986 "، وله خمس مجاميع قصصية منها " مملكة صغيرة 1993 " و " الليل المسحور 1999 ".
يعمل أستاذاً في كلية سكيدمور في نيويورك ومنح جائزة الأكاديمية الأمريكية للأدب ومعهد الفنون عن مجمل أعماله.
* عن نيويورك تايمز 3 نوفمبر 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق