الاثنين، 5 يناير 2009

عبود الجابري في فهرس الأخطاء : متفق مع ذاته ومختلف مع الآخرين في قراءة الأثر

عبود الجابري في «فهرس الأخطاء»
متفق مع ذاتِه ومُختلِفٌ مع الآخرين في قراءة الأثر
_____________________________________________________
نصر جميل شعث

الشاعر العراقي عبود الجابري، برغم كونهِ ممسكـًا بزمام القول الشعري، ومتمسّكـًا بالقصيدة، دون غيرها من الأجناس الأخرى، إلا أنه لم يصدرْ طوالَ تجربته وخبرته الممتدة في وعي ومذاكرة القصيدة وشروطها الجمالية؛ سوى مجموعة شعرية وحيدة، لغاية الآن، بعنوان «فهرس الأخطاء»، والتي صدرتْ صيف، 2007، عن «دار أزمنة» بعمان، وضمّت خمسًا وعشرين قصيدة، هي نتاج عقدين من الزمن ويزيد. إذ قرّر الجابري أن يضعها في كتابٍ يوقعّه، الآن، بعد صمتٍ طويل، بعنوان مُتداولٍ ومستعمل، أي مُجرّب في توصيل الرسائل والتوضيح من لدن المرسل إلى المتلقي.
وقد أراد الشاعر بهذا الاختيار للعنوان بوصفهِ كشافـًا للأخطاء؛ أن يلقي الضوءَ على كلّ ما صمت عنه طيلة عشرين سنة، ورآه في «مرآةٍ تقطعت بها سبل الضوء».
حيث نلمس القدرةَ لديه على التقليل من احتمالات الخطأ في تأويل المنزل والنافذة، بقدر ما نلمس تخفّفه من تعب الإشارة وحريتها الطائشة في فضاء اللغة التي تحرّض السياسة على نحت مصطلحات مراوغة وخطيرة، مثل «الفوضى الخلاقة» المنتجة للمتاهة والأخطاء. وبذلك يتفق الجابري - إذ يتّجه إلى القارىء بما يعنيه من أخطاء وأسى- مع الشاعر العراقي طارق الحربي الذي كان أرسل «إلى القارىء»، في مستهلّ مجموعته الشعرية المعنونة بـ«حرب 80»، رسالةً صفّها بشكل عمودي، قال فيها للقارىء: «أنا/ حروب/ طويلة/ لا يعود/ فيها/ أسير/ ولا تنتهي». ومنذ عنوانه المتداول والعامّ؛ يحدّد الجابري موضوعه الذي يشترك في تداوله الشعراء العراقيون.
فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يتفق شاعرٌ كطالب عبد العزيز صاحب ديوان «تاريخ الأسى»، وشاعر كطارق حربي صاحب ديوان «حرب 80»؛ مع عبود الجابري، في توقيع العناوين التي تشكل بوّابات عريضة وعامة، وموازية، في تفاصيلها لـثقل وقع الأحداث ونشرات الأخبار، ذات المادة الرقمية الجاهزة والمتصاعدة. الشيء الذي نلمسه في قصائد عبود الجابري التي تحتقب التاريخ والطابع العراقيّ في حقيبة شعرية متينة ونوعية، يشغلها الشاعر بمعالم وتذكارات وصور وليال ثقيلة وذاكرة محمّلة بالماضي، كما يكتب في قصيدة «الضليل»:
رداءٌ مِنَ الخزّ يَستر عوراتنا
وتواريخ محمولة في الحقائب
لم انتبهْ لقبائل شِعرك.. حين كتبت الليالي على جثة اللوح
كنت وحيدًا
وكانوا …..
……………… ؟!!!!
هذا المسكوت عنه، الذي يلي «كانوا… »، الآن، يشير له الشاعر في قصيدة بعنوان «بطولات» بقوله: «لي/ في احتشاد الرواة/ لسان صموت/وأذن أجفّف فيها الكلام». إذ يتّسع ما بعد «كانوا… » لاحتشاد الرواة والأخطاء. و نجد، في هذا الفراغ، مكانـًا واقعيّا للأسئلة ولقصيدة قصيرة بعنوان «وجهات نظر»؛ فيها يعبّر الشاعر، بأسى الساكت إزاء المشهد العراقي - الذي يراه الجميع- عن دموية الاختلاف والخشية المتبادلة بين المختلفين:
هو يَرى أنّ قدمي..
تنسلّ تحت دمه..
وأنا أرى أنه يدوس قدمي..
كلانا يخشى خطوة الآخر..
هذا الشكل من أشكال الاختلاف المأساويّ في «فهرس الأخطاء» أو المكابدات العراقية، يقابله الجابري بحقيقةِ كونـِهِ شاعرًا متفقـًا مع ذاته، ومع داخله المتجه للمرأة- الزوجة والأصدقاء؛ فلا تشي قصائده بتشظيه على نحو شخصي وذاتي. غير أنه مختلفٌ، مع الآخرين، حول قراءة الأثر؛ حيث يتطرّق إلى الاتفاق والاختلاف في قصيدة معبّرة تحمل عنوان «مُخلّفات»:
كنا متفقين في بداوتنا الغضه
ومختلفين حول قراءة الأثر.
(……………………)
لم نكنْ متفقين على تكسير ساعة الرمل
وإراقة أوقاتنا
ولم نكن مختلفين على نسب الخيول
لذلك وضعنا قبعاتنا
ورفعنا رؤوسنا
ومضينا
نهزأ
بما اتفق
عليه الرواة.
وعليه، يمكن اعتبار «فهرس الأخطاء»، عنوانـًا وقصائدَ، كتخطيط أوليّ لمأساة الشاعر، وذلك تحويرًا لعنوان القصيدة الأولى: «تخطيط أولي لمساء الشاعر»، والتي تعقبها قصيدة «Valentine»، وقصيدة «أغنية الشتاء» وكلتاهما تصدران عن شعور بسيادة اللون الأحمر المتعاظمه بين وحول العاشقين والأثر، لدرجة شحوب الورد المتبادل. وبالتالي، في الحزن والغربة تتخلل «الأغنية» تجعّداتٌ وتعطّلُ مصابيح شوارعَ تهاجر إلى غرف النوم، أي لجوء «غربب يموت من البرد في جنبات الفصول» لوضع رومانسي، في مساء شتائيّ وبارد. إذ ترقى القصائد لإمكانيات الصورة الشعرية الموحية والواخزة بحميميتها وبمنطق بحثها الشعري عن الوطن، لدى شاعر مغترب، يتعلّق بالتذكارات والصور.. «يعبّىءُ رأسَه بالقناطر ويبتكر الأنهار»، ويعبْر إلى وطنه مِن «صورة القنطرة المعلقة على جدار المقهى (باحثا عن الماء) ربما في غيمة متآكلة/ وربما في عطش القطيع/ يرنو إلى صورته تتكسر في التماع الطين» .. ولكنه، في قصيدة «عابر وطن»، يقول:
يعبرُ البلاد
لا من أين ؟
ولا إلى أين ؟
تلك مرآة تقطعتْ بها سبلُ الضوء
ومضتْ تبحث عن النار
في رماد أبنائها.
القدس العربي، الجمعة 9 أيار (مايو) 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق