الاثنين، 5 يناير 2009

عبود الجابري: عابر وطن يفهرس الأخطاء

عبود الجابري: عابر وطن يفهرس الأخطاء

هدية حسين

الى أين تمضي أيها الشاعر الرحالة الذي لا يكف عن اقتراف الخطايا في الكلام ؟ يحمل زاداً لا يغني من جوع ، وعصى لا تعرف خطى الطريق متوهماً أن يستدل بها التائهون ، يحمل خارطة لوطن نثر أحزانه على خرائط المدن الغريبة وفقد ملامحه ، يحمل تذكارات لأمهات أخذت الحروب أبنائهن ، يحمل جراحاً ويقعد على الأرصفة لعلّ أحداً يشتريها ، يزعق بالسؤال : الى أين المفر ؟ لا أغنية تستلّ من جسمك بقايا الندوب ، لا أم ّ تهدهد سنينك الشائخات ، لا أحد يأتي إليك من هناك . أيها الجوّال احمل عدّتك - هذه الأخطاء - التي فهرستها في كتاب وواصل تجوالك إذ لا عاصم لك أو لنا غير هذا الكلام المدبّج بالحنين ، الممهور بالشجن ، المغمور بشمس لا تشرق من الشرق . إنها خارطة متهرئة ، تماماً كما قلت على الصفحة الأربعين من كتابك الموسوم ( فهرس الأخطاء):
نحمل الخارطة المتهرئة
ونمضي
باتجاه كرة أرضية
جميع ما فيها ينثر علينا أسماله
والسؤال المعتق
بلسان عربي مبين
أيها الناجون من بلادكم..
أين المفر؟
**
منذ كم من السنين حملت المنافي ؟ منذ كم من السنين توسّدت المتاهة ؟ منذ كم وأنت تخترع مراكب الرحيل ؟ والرأس صار أبيض من ثلج الغربة ، وفهرسك يناسل الأخطاء ، وصوتك المشحون بمواويل الجنوب لا يسمعه أحد ، وتنكر خطاك الطرق المزحومة بالنساء ، منذ كم ، وكم ، وكم ؟ والأمهات يهدهدن الدللّول بعيداً عن مهود أطفالهن دون أن يدرين أنهم صاروا شيوخاً في أقاصي الدنيا ؟ بلا أمهات
نكبر..
ثم نلقي السلام على الشرطي الأخير
ونخترع المراكب
والبحر والقبطان
نسرج ما تبقى من الخيول الهزيلة ونبتعث مدناً مهادنة
ومواقيت صلاة
من ساعة معطلة في سماء بغداد
ليس لنا
سوى العمر الذي لا يأتيه النوم
من بين يديه
ولا من خلفه
نحمل ما دسسنا في جيوبنا
مما لم تأكل الهوام،
**
قصائدك ماهي إلاّ ( أسلاك شائكة ) ، ( على مشارف التأويل ) في ( بلاد تضيق بأهلها ) فتأخذهم ( المتاهة ) باحثين عن ( أسانيد مهملة ) وأمهات وشوارع تحمل أسماءهم أو تتحمّل وقع خطاهم ، حاملين ( صورة الأب ) الذي يقبع في غرفة المخزن الرطبة لعلّ ( احتمالات ) الأغاني القديمة تعود به الى هيبته الأولى . الى أين تمضي بتلك القصائد أيها الضلّيل الذي ينثر علينا رذاذ أخطائه وأحزانه ؟ لا جبل يعصمك من طوفان الحنين ، ولا نار تدفئ شتاءاتك الطويلة ، ولا وطن يتذكر وجهك ، أنت نفسك اعترفت على الصفحة 19 من فهرس الخطاء:
في الطريق الى وطني
ما تعوّدت أن أنتشي
ويغني سواي
كنت دوماً شهيداً
وكان الزمان صداي
**
ولم تكن أمك معك ، ولا الأصحاب ، ولا الأحباب ، ولا الدروب التي شهدت طفولتك ، ولا المدارس التي تنقّلت بينها حاملاً علامة فقرك الفارقة ، ولا زوارق دجلة ولا نواعير الفرات ، ولا الوطن الذي ( مدّ على الأفق جناحه ) ولم تلُح لك ( رؤوس الحراب ) ولم تُفتح لك نافذة ولا باب .. أنت وحدك تحمل وزر خطاياك وتمضي في السهو دونما دليل ، تلطمك رياح الحنين حتى تشيب خطاك على الطريق ، ولا بريق يضيء لك العتمات ، وتذوي رؤاك فلا ترى وجه أمك الموشوم بالحزن المعتق .. أنت وحدك يا سيد المتعبين من لا يتذكره أحد فالذاكرات احترقت مدوّناتها ، والأصدقاء رحلوا منذ زمن بعيد:
يسقط الأصدقاء القدامى
من جيوب المحبة
تحت ذريعة ضيق الوقت
يسقط الوطن من الخارطة تحت ذريعة النوم في المخابىء
والاحتفاظ بحق الرد في الوقت المناسب
يسقط المطر
بحجة نحول الريح
تسقط الأغاني..
على لسان الأخرس والشمس في عيون الأعمى
ونحن أيضاً
نسقط كل يوم في البئر ذاتها
ولا يتبعنا
سوى صدى أصواتنا
ونحن نهتف
يسقط ال ....
يسقط ال ....
يسقط يس ....
ي......
**
ترى ، هل كنت سادراً في الوهم أكثر مما يجب حين دوّنت الأخطاء حالماً بتصويبها حين تعود ؟ الى أين تمضي ؟ لم تعد مدينتك كما كنت تعرف وتقرأ بذاك الاتساع الحلمي ، لم تعد شابة تغوي العابرين ، لقد شاخت ، تقعّرت ، تحدّبت ، تصدّعت ، تجعّدت من كثرة الندوب ، ضاقت بأهلها وأصبحت مثل خرم الإبرة ، بينما أنت ما تزال تغزل في نأيك خيوط المحبة وفرحة اللقاء بخيوط هلامية . أنت لست أكثر من عابر وطن لا يره إلاّ في خاطر الذكريات يتوهم في الصدى صوتاً يدلّه على الطريق:
يعبر دجلة..
يده مروحة معلقة في كتفه
وعيناه تسيران على الماء
توقدان نار الأسماء المفجوعة بحروفها
ياه .. يا للموقد المقدس
فاقتنص شرارتك الأخيرة
وامض الى حيث يموت أسلافك من البرد
وحيث تموت أسراب النمل على خيط من العسل
المعلّق .. بين دجلة
وجسر الشهداء
كم جسراً يلزمنا للشهداء؟
****************
فهرس الأخطاء . شعر . عبود الجابري . أزمنة للنشر والتوزيع . عمّان.

الصباح الجديد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق