الاثنين، 5 يناير 2009

الشاعر يفلسف الاخطاء النبيله بعنايه

الشاعر يفلسف الأخطاء النبيلة بعناية
__________________________________________________________
منذر عبد الحر


عن دار أزمنة للنشر والتوزيع في عمّان صدر للشاعر العراقي عبّود الجابري ديوان شعري جديد يحمل عنوان ( فهرس الأخطاء ) يضم ّ خمسا وعشرين قصيدة سبق للشاعر الجابري نشر بعضها في الصحف والمجلّات الأدبية , والشاعر عبّود الجابري مقيم في الأردن منذ أوائل تسعينات القرن الماضي , ويعدّ من أهدأ الشعراء العراقيين ومن أكثرهم زهدا بالأضواء والنشر , اضافة الى صدق همه الشعري وصفاء تجربته التي جعلت منه شاعرا متميّزا يمتلك صوته الخاص وتجربته الثرّة الغنيّة التي أنجبت في ما أنجبته قصائد الديوان الجديد الذي بين أيدينا , والفكرة التي انطلق الشاعر منها في اهاب هذا الديوان والمعتمدة على ( أنسنة ) الخطأ – اذا صح ّ التعبير – هي فكرة اعتبار هذا الخطأ اعترافا انسانيّا باذخ الحضور وهو يجسّد علاقة الفرد مع بيئته ومع تجربته ومع خلاصات حياته التي أطلقها بوح قصائده وهي التي تتميّز بموسيقى منسابة بحرفيّة عالية , ولغة صافية , ومفردات موحية معجونة بالغربة والألم والحياة المضمّدة , اضافة الى تمتّع هذه القصائد بتشكيل جماليّ يتّضح في عدم الاصغاء الى نسق ثابت في سياق القصيدة قد يكون هذا النسق مملا , لذلك يولّد الشاعر من قصيدته تشكيلات لها أسئلتها الخاصّة ودلالالتها التعبيريّة والفنيّة الهامّة من خلال بناء القصيدة بهندسة تتضح بالاطار العام المرسوم للنص ثمّ توليد الملحقات التي تمنح النص الشعريّ أبعادا مضافة , ونلاحظ ذلك في عدد من القصائد منها ( الضليل ) التي تقدّم لنا أنموذجا للقصيدة المركبة في شكلها حيث تتولد فيها الرؤية التي تستند على احاطة واعية بالشكل المقترح بعيدا عن الفذلكة والتكلّف والادعاء يقول الشاعر في قصيدة ( الضليل ) ص 10 :
" سترين على البعد ... نصف الشراع المهلهل
هل قلت نصف الشراع ... ؟
ولم أستطع مدّ أرجوحة في الهواء المعلّق بيني وبينك
هل كان بيني وبينك محض هواء ... ؟
رداء من الخز يستر عوراتنا
وتواريخ محمولة في الحقائب
لم أنتبه لقبائل شعرك , حين كتبت الليالي على جثّة اللوح
كنت وحيدا
وكانوا ......
........؟ !!!! "
ثم يطل الشاعر بعد مقطع مماثل ثري بالتعبير الشعري المبدع الى مفصل آخر من مفاصل بناء نصّه ويعطيه عنوانا ثانويا هو " سوانح من ضمن المتن " وهي عبارة عن جمل شعريّة تجسّد رؤى وأفكارا تخرج عن القصيدة لتدور في اطارها في معادلة فنيّة محكمة البناء والأداء الشعري .
وبعد هذه السوانح المركزة السريعة يطل علينا عنوان ثانوي جديد وهو استدراك يقول فيه الشاعر " :
لم أكن نائما عندما أذن الموت في بلدي
.. كنت أسعى لتأجيل قنبلة
تطفيء الروح في جسدي "
و بعد هذا الاستدراك الواخز ينهي الشاعر قصيدته بملحوظة جاء فيها : متن القصيدة محذوف لأسباب تتعلق بضيق ذات اللغة , وهو نوع من أنواع الايهام الفنّي الطريف المشاكس يحمل منحى جماليّا وتأويليا خاصّا .
ومن النقاط المضيئة التي تمتاز فيها قصائد " فهرس الأخطاء " استخدام الشاعر لجمل وتعابير مألوفة في سياقها العام , لكنه يكسرها بمؤدى تأويلي آخر عن طريق توجيهها لغويّا وبالتالي اعطاءها بعدا جماليا آخر مثل " يقلب كفّيه ذات اليمين ... وذات الخواء " ص 9 , أو " تسعين بين الصفاء ... وبين المرارة " من قصيدة " أمي " ص 23 , أو " أسلاك شائخة " عنوان قصيدة ص 28 , أو " أتسلّقه ... حلما ... حلما " ص 29 , أو " عابرو حياة " ص 43 , أو " أطلس حافل بتضاريس الحنين " ص 53 , أو " يسبلون متاعبهم " ص 56 , أو " عابر وطن " ص 57 , أو " منذ ثلاث حروب " ص 61 , أو " ناصية الليل " ص 64 , أو " أقود قطيع انكساراتي " ص 65 , أو " تعثّرت بفكرة " ص 68 ... الخ من المفردات التي تحرف اللغة عن دلالالتها المعروفة الى صياغات واستعارات شعريّة جديدة .
والجانب الآخر الذي يؤديه الجابري في ديوانه الجديد هو اطلاق العبارات المكتنزة الخارجة عن اطار سرديّة النص وهي عبارات حادة تفضي كلّ منها الى موضوع منفصل لغويّا واشاريا , لكنّه متصل في نسيج النص الذي ينتمي اليه فنّيا ., وحتى النقاط والفراغات التي اكتظت بها القصائد لها وقعها الخاص وتعبيرها الدال على الرؤية الشعرية الناضجة لدى الشاعر , يقول الشاعر في قصيدة " تماما كما حدث " – وهي قصيدة مركبة تبدأ بنسق سردي ثم تذهب الى التقطيع والعناوين الثانوية - , اذ تبدأ :
ما حدث لاحقا ...
أنه راح يجمع بقايا المدن المنهكة ... !!
خارج السور ...
يقفل أعضاءه
ويفتّش عن السماء ..
السماء التي لم يرها منذ زمن بعيد
فاتهم جسده بالانحناء
وعينيه بالعمى .
وبعد الانتهاء من هذا المقطع ذي الفضاء المعتم الحاد تخرج القصيدة الى عنوان ثانوي هو " في المنعطف الأول " يتضمن ومضة ترصد حالة صورية " :
رجل بذاكرة عارية
يثقب جيوب بنطاله بيديه ..
يتحسس الماضي
ثم يلوذ بخساراته "
وبعد هذه الومضة يضع الشاعر تحت عنوان آخر جديد هو " هكذا " الجمل المركزة التي أشرنا اليها ومنها " سيقلّم أظافره ليستغني عن مشطه الأدرد " .
فيما يجنح في نصّه الفنّي الى تبني أسلوب تشظّي الشكل في القصيدة الواحدة من خلال عنوان دال على هذا التشظي وهو " ملصقات " وهو عبارة عن مقطّعات شعريّة منفصلة أو قصائد قصيرة تتمثّل حالات انسانيّة والتقاطات حياتيّة طريفة وقد ضمّها الشاعر باطار مقترح هو " ملصقات " ومنه " نرجسيّة " :
لأن صوته ...
يشجيه في الحمّام
راح يحدّث الجلاس عن محاسن النظافة " .
أما قصيدة " أسانيد مهملة " ص 21 , فهي تبدأ بتضمين قرآنيّ نجح الشاعر فيه بالدخول الى أجواء قصيدة حادّة الخطاب لغة وموضوعا " :
سواء علينا .. أكنّا نقلّم أظفارنا ..أم نحك بها الريح
ليس لنا غير أنشوطة لاقتناص المواعيد "
أما قصيدتا " أمي " ص 23 , و"صورة الأب " ص 49 , فهما قصيدتان ذاتيّتان جميلتان تنسابان بلا تعرّجات أو تشكيل فنّي يخالف انسياب البوح والشجن , فقصيدة " أمي " أنشودة بوح ولوعة واصغاء كلّي لهذا الكائن الفذ – الأم – وهي تمثّل طمأنينة الدنيا في عالم متشابك من الاحباطات والخوف والقلق والارتباك الذي يعيشه كلّ منا في عالمه المخبوء في تراكض الزمن الغريب باتجاه المجهول المفزع , أما قصيدة " صورة الأب " فهي أقل أنينا لأنها تحمل أسئلة وذكريات وخطوات كبرى باتجاه عالمنا الذي نحياه .
وبعد فديوان الشاعر المبدع عبّود الجابري اضاء جديدة في خارطة الشعر العراقي الحيوي الحيّ , نبارك لصديقنا الجابري عليها ونتمنى له المزيد من الابداع والتألق .

جريدة الزمان
تشرين الثاني 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق