الأحد، 1 نوفمبر 2009

توني موريسون - استقراء الماضي

توني موريسون.. استقراء الماضي
عبود الجابري



تحرير: سوزانا روستن
ترجمة: عبود الجابري

"كنت أحثّ الخطى وحيدةً الا من عيونٍ ترافقني في مسيري، عيون تتجاهلني، عيون تتفحص إن كان لي ذيلٌ، حلمة اضافية او أثر سوطٍ على اليتي،عيون تحدق بدهشة لتقرر ان كانت سرتي في المكان الصحيح، وإن كانت ركبتاي تنثيان كقوائم الكلب، تريد ان تتأكد إن كان لساني مشطوراً كلسان الأفعى، وإن كانت اسناني على وشك الالتهام، وإن كنت استطيع القفز من وسط الظلام وأمارس العضّ!!
كنت منكمشة من الداخل وأنا أقطع طريقي وسط تلك العيون المحدقّة اعلم انني لم أعد كما كنت، انني افقد شيئاً ثميناً مع كل خطوة اسيرها، استطيع ان أشعر بالنزف، شيئ ثمين يغادرني، انا كائن يتشظى.
مع الحرف يكون لي نسب وأشعر بشرعيتي، وبدونه أنا عجل يخذله القطيع، سلحفاة دونما ترس، سمك دون مجسات، هناك فقط الظلام حيث ولدت، الظلام في الخارج والداخل أيضاً، ظلام مسنن وله ريش..؟!
هل كانت أمي تعرف ذلك ولم اختارت لي تلك الحياة..؟
عند هذه النقطة فقط، انتاب فلورنس ذلك الشعور بالضآلة، بسبب الربط بين سواد لونها وبين الشيطان.. وبعد ان قاموا بتفحص جسمها شعرت وكأنها كائن غير ادمي تحت نظراتهم.. شيئ ما مات في داخلها ، الأشياء تنظر اليها بتلك العدائية.. الأشجار.. والأشياء جميعها، وكانت تفكر ان كانوا ينظرون اليها بسبب سواد لونها وإن كانوا يرون ذلك امراً شريراً وشيطانياً وأن عليها أن تعاود التفكير بالأمر.
الآن وحين خلت الى نفسها فكرت ان كانوا على حق ؟؟شيء سيء ينمو داخلها، شيء يفتت النفس.
ذلك هو المنعطف الحاسم الذي توقفت عنده " توني موريسون " في روايتها الجديدة " فلورنس" - حيث تبحث الشرطة من مجموعة خاطفي النساء - ، لترد على هاتفها الخلوي" " انه ولدي تقول معتذرة ، انه يمازحني ربما " لتعاود الإتصال به ويجري بينهما حديث سريع حول آخر المستجدات في الإنتخابات الأمريكية.
" سنقضي وقتاً ممتعاً " وأردفت فيما بعد. "سوف نشاهد تغطية أخبار الإنتخابات على شاشة التلفاز مع مجموعة من الأصدقاء، ليلة الثلاثاء".
وعن رأيها فيما لو فاز " باراك أوباما " تقول:
" سيكون ذلك أمراً رائعاً وممتعاً وله تأثير الصدمة كما أظن " موريسون " كانت قد قالت أن بيل كلينتون أوّل رئيس أسود، " لقد قلت ذلك لأنه كان يعامل كرجل أسود وكان.....!! ثم صمتت قائلة " على اية حال، لا أستطيع أن أقول شيئاً، لم يعد للأمر أهمية" ثم عادت لتكمل حديثها عن اوباما.
"لم أتعرف عليه، لقد تعرفت على " هيلاري "..، وكنت احبها وأحترمها لسنوات طويلة،" المرة الأولى التي اتصل فيها اوباما طالباً مساندتها قابلتها بالرفض ولكن " لقد تبادلنا الحديث لوقت قصير" وفي كانون الثاني غيرت رأيها وكتبت له رسالة متقدة تثني فيها على حكمته".
" رحمة " رواية موريسون التي كتبتها خلال السنوات الخمس الأخيرة، نشرت في بريطانيا، وتم توزيعها في أمريكا مؤخراً، على الرغم من أن موعد النشر قد تم توقيته ليكون بعد اختيار " باراك أوباما " مرشحاً للحزب الديمقراطي، وهو أمر لم يكن مصادفة على الإطلاق".
في " رحمة " تكتب الروائية الحائزة على نوبل ذات السبعة وسبعين عاماً، بشكل مباشر حول " الرقّ " في أمريكا، لأول مرة منذ روايتها " محبوبة" ورغم اختلاف " رحمة " عن بقية رواياتها،- تقع غالبية احداث الرواية في القرن السابع عشر- ، تقول موريسون عن الرواية "انها محاولة للفصل بين الرق والعنصرية، لمعرفة الكيفية التي ترسخ فيها ذلك المفهوم وغرس بتأنٍّ ، من أجل حماية تلك الفئة من الإضطهاد ومصادرة اسس حياتهم المدنية، مثلما هو قرار الشعب الأمريكي بانتخاب امريكي من اصول افريقية رئيساً انه أمر بديع.".
هكذا تدفع الكاتبة الأمريكية من أصول افريقية بوجهة نظرها حول امريكا الخالية من الفساد، او امريكا التي دبّ فيها الفساد عبر التفكير بطريقة عنصرية.
تمتد شهرة موريسون الى عقود أربعة انجزت فيها تسع روايات أوغلت عميقا وبشكل جرئ في التاريخ الأمريكي.
" تشكل كتبي اسئلة بالنسبة لي.. ماذا لو..؟ وماذا تشعر ..؟ او كيف كانت ستبدو لو استبعدنا العنصرية منها..؟ وكيف كانت ستبدو لو تحققت لك المدينة المدينة الفاضلة..؟ كل ما تمنيت تحقيقه..؟ أسئلة تبدو مغالية في طرحها.. وتبحث عمن يطرحها بوضوح، وتعتمد عملية البناء الروائي على كيفية جمعها معا".
كتبت " موريسون" روايتها الأولى العيون الأكثر زرقة- 1970 بينما كانت تعمل طيلة النهار مسؤولة عن تربية اثنين من اولادها في نيويورك، وقد أظهرت فيها براعة ادبية عالية في رصد تحولات الحياة عند الفتيات السود القاصرات اللواتي كن يعشن في مسقط رأسها - لورين- في أوهايو.
" سولا 1973" تتحدث عن صداقة نسائية مستوحاة جزئيا من حياتها كأم وتفاصيل أخرى لها علاقة بنشاط الحركات النسوية التي كانت سائدة انذاك.. بينما.. تتحدث " اغنية سليمان" عن البطولة والإغتراب.. لكنها في " محبوبة " الرواية التي حازت جائزة نوبل، تكتب عن ميراث الرق في القرن العشرين والقوانين التي وضعت من اجل ذلك، وكانت قبل ذلك قد بدأت حياتها بتأليف موسوعة التاريخ الأفرو - أمريكي " الكتاب الأسود".
" محبوبة " التي تحكي قصة جارية تهرب من مالكها السابق الذي يقوم بالبحث عنها، مفضلة أن تقوم بذبح ابنتها على القيام بتسليمها له.
انها رواية الرعب المكتوم،وناهيك عن الوحشية التي تتخلل الأحداث، فإن موريسون تقابلنا بالألم الذي لا يمكن للذاكرة تجاوزه.. الألم الذ يعّد " واحداً من اكثر الأساليب وحشية في التاريخ البشري.. عمل لم يسبق للمنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان ان لاحظته من قبل " كما تقول " مارغريت اتوود ".- الناشطة في مجال حقوق الاقليات -
"كنّا محكومين بشدة بالثقافة الافرو - أمريكية، فكان بديهياً أن يكون الرق جزءً من تلك الثقافة"، تتحدث موريسون عن نشاتها، علاوة على الضغط الذي لم ترغب بتذكره وانما بكيفية التغلب عليه، لذلك فانها عندما كتبت " محبوبة "، فإن فن النسيان كان جزءً اساسياً في البناء.
وحين لم تفلح محبوبة بالظفر بجائزة الكتاب الدولي، انبرى اكثر من من ( 48 ) ناقداً وكاتباً من بينهم " مايا انجلو " و " اليس ووكر " بالكتابة الى نيويورك تايمز متحدثين عن فضائل ادب موريسون فمنحت على اثرها جائزة " البوليتزر "، موريسون ذاتها تنبهت الى ان هناك مناصرة جماهيرية لما تنجزه الكاتبات السود وبعد أن نالت " نوبل عام 1993 كتبت "بأنها قد حصلت على شهادة للزهو" .
تتفق موريسون مع النقاد الذين يرون أن الحبكة الروائية لديها محصورة في نطاق ضيق شأنها شأن " جويس و دستو يفسكي" حيث كتب جويس عن ايرلندا ودستويفسكي حول روسيا وكانت موريسون تسلط الرأي على اهمية الاعتداد بحرية الرأي بعيداً عن الإستبداد، معبرة عن ذلك بطريقة رقيقة تتجلى فيها انوثتها.
منذ عدة سنوات اشترت منزلاً في برنستون.. في شارع مليء بالأشجار الكثيفة ضمن الحرم الجامعي.. وقد خصصت الطابق العلوي منه لحفيدتيها.. .." أعلم أنه ترف مبالغ فيه غير انني استمتع بذلك انه نقيض ما عشته في طفولتي في " اوهايو ".
ولدت " موريسون " في عام 1931.. واسمها الحقيقي " كولي انتوني " في ردفورد وتوني لقبها الذي اتخذته خلال فترة الدراسة " اما"موريسون " فاتخذته من زوجها السابق..، كان والدها يعمل في مجال لحام المعادن،" حين بدأت الحرب بدأ كل شيء ينفد لدينا، وكانت خلافات والدي كما هي خلافات الفقراء أنذاك".
تقول " موريسون " انها تتمنى ان ترى اولادها بشكل مغاير بعيد عن بشاعة التمييز العنصري التي سادت اعوام الثمانينات" ، وحين سألتها متى شعرت انها قد عوملت وفقاً للون بشرتها ؟ وهل احست يوما انها مهددة بسبب ذلك؟؟ أجابت بعصبية ان السؤال يمكن ان يكون " متى شعرت انك امرأة بيضاء..؟"
غير ان دروس الماضي متباينة لدى والديها " لم يكن أبي يثق بأي شخص ابيض.. لم يكن يسمح لهم بدخول منزلنا.. موظفي التأمين وسواهم.. " ولحسن الحظ فإن أمي كانت على النقيض من ذلك، كانت مختلفة تماما.. وتقابل الناس بناءً على تقييمها لهم كانت أمي تتكلم عن طفولتها في الجنوب حيث غادرت وهي في السادسة بشغف وحميمية وانتماء، بينما يتكلم ابي عن مسقط راسه بطريقة مختلفة بكل معنى الكلمة لكنه رغم ذلك يقوم سنويا بزيارة المكان الذي يكرهه " جورجيا " بينما لم تزر امي " الباما " المكان الذي كانت تحب .. أبداً..
مثل هذه الصراعات كانت تتكرر في رواياتها التي تحفر في مواضيع التنافر الديني والسياسي والعرقي، من خلال فضح الممارسات التي كانت سائدة انذاك، لقد اختارت الدراسة في كلية " هوارد " في " واشنطن ". لأنها رغبت ان تبقى محيطة بالثقافة الفكرية للناس السود وبذلت قصارى جهدها لإستيعاب واكتشاف الأثار التي ترتبت على اندماج تلك المكونات وتسوية الخلاف بينها.


عن الغارديان 1 نوفمبر 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق